فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ قَبْلَ التَّضْحِيَةِ وَعِنْدَهَا وَبَعْدَهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ قَبْلَ التَّضْحِيَةِ وَعِنْدَهَا وَبَعْدَهَا:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ قَبْلَ التَّضْحِيَةِ وَعِنْدَهَا وَبَعْدَهَا وَمَا يُكْرَهُ أَمَّا الَّذِي هُوَ قَبْلَ التَّضْحِيَةِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْبِطَ الْأُضْحِيَّةَ قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ بِأَيَّامٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ لِلْقُرْبَةِ وَإِظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِيهَا فَيَكُونُ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ وَثَوَابٌ وَأَنْ يُقَلِّدَهَا وَيُجَلِّلَهَا اعْتِبَارًا بِالْهَدَايَا، وَالْجَامِعُ أَنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} وَأَنْ يَسُوقَهَا إلَى الْمَنْسَكِ سَوْقًا جَمِيلًا لَا عَنِيفًا وَأَنْ لَا يَجُرَّ بِرِجْلِهَا إلَى الْمَذْبَحِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ.
وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَيُكْرَهُ أَنْ يَحْلُبَهَا أَوْ يَجُزَّ صُوفَهَا فَيَنْتَفِعَ بِهِ لِأَنَّهُ عَيَّنَهَا لِلْقُرْبَةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا قَبْلَ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ فِيهَا، كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِلَحْمِهَا إذَا ذَبَحَهَا قَبْلَ وَقْتِهَا وَلِأَنَّ الْحَلْبَ وَالْجَزَّ يُوجِبُ نَقْصًا فِيهَا وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ إدْخَالِ النَّقْصِ فِي الْأُضْحِيَّةَ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ هَذَا فِي الشَّاةِ الْمَنْذُورِ بِهَا بِعَيْنِهَا مِنْ الْمُعْسِرِ أَوْ الْمُوسِرِ أَوْ الشَّاةِ الْمُشْتَرَاةِ لِلْأُضْحِيَّةِ مِنْ الْمُعْسِرِ فَأَمَّا الْمُشْتَرَاةُ مِنْ الْمُوسِرِ لِلْأُضْحِيَّةِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَحْلُبَهَا وَيَجُزَّ صُوفَهَا؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ تَعَيَّنَتْ الشَّاةُ لِوُجُوبِ التَّضْحِيَةِ بِهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تَقُومُ التَّضْحِيَةُ بِغَيْرِهَا مَقَامَهَا وَإِذَا تَعَيَّنَتْ لِوُجُوبِ التَّضْحِيَةِ بِهَا بِتَعْيِينِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِي جُزْءٍ مِنْهَا، وَفِي الثَّانِي لَمْ تَتَعَيَّنْ لِلْوُجُوبِ بَلْ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِهَا مَا فِي ذِمَّتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ غَيْرَهَا يَقُومُ مَقَامَهَا فَكَانَتْ جَائِزَةَ الذَّبْحِ لَا وَاجِبَةَ الذَّبْحِ، وَالْجَوَابُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُشْتَرَاةَ لِلْأُضْحِيَّةِ مُتَعَيَّنَةٌ لِلْقُرْبَةِ إلَى أَنْ يُقَامَ غَيْرُهَا مَقَامَهَا فَلَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَا دَامَتْ مُتَعَيَّنَةٌ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ لَحْمُهَا إذَا ذَبَحَهَا قَبْلَ وَقْتِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ- وَهُوَ يَخَافُ عَلَيْهَا إنْ لَمْ يَحْلُبْهَا- نَضَحَ ضَرْعَهَا بِالْمَاءِ الْبَارِدِ حَتَّى يَتَقَلَّصَ اللَّبَنُ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْحَلْبِ وَلَا وَجْهَ لِإِبْقَائِهَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهَا الْهَلَاكَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فَتَعَيَّنَ نَضْحُ الضَّرْعِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ لِيَنْقَطِعَ اللَّبَنُ فَيَنْدَفِعَ الضَّرَرُ فَإِنْ حَلَبَ تَصَدَّقَ بِاللَّبَنِ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ شَاةٍ مُتَعَيِّنَةٍ لِلْقُرْبَةِ مَا أُقِيمَتْ فِيهَا الْقُرْبَةُ فَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ التَّصَدُّقُ بِهِ، كَمَا لَوْ ذُبِحَتْ قَبْلَ الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ جَازَ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الصُّوفِ وَالشَّعْرِ وَالْوَبَرِ.
وَيُكْرَهُ لَهُ بَيْعُهَا لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ بَاعَ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ- لِأَنَّهُ بَيْعُ مَالٍ مَمْلُوكٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشَّرَائِطِ فَيَجُوزُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ ثُمَّ إذَا جَازَ بَيْعُهَا عَلَى أَصْلِهِمَا فَعَلَيْهِ مَكَانَهَا مِثْلُهَا أَوْ أَرْفَعُ مِنْهَا فَيُضَحِّي بِهَا فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ، وَإِنْ اشْتَرَى دُونَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ وَلَا يَنْظُرُ إلَى الثَّمَنِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى الْقِيمَةِ حَتَّى لَوْ بَاعَ الْأُولَى بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا وَاشْتَرَى الثَّانِيَةَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا وَثَمَنُ الثَّانِيَةِ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِ الْأُولَى يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ قِيمَةِ الْأُولَى، فَإِنْ وَلَدَتْ الْأُضْحِيَّةُ وَلَدًا يُذْبَحُ وَلَدُهَا مَعَ الْأُمِّ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ.
وَقَالَ أَيْضًا: وَإِنْ بَاعَهُ يَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ تَعَيَّنَتْ لِلْأُضْحِيَّةِ، وَالْوَلَدُ يَحْدُثُ عَلَى وَصْفِ الْأُمِّ فِي الصِّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ هَذَا فِي الْأُضْحِيَّةَ الْمُوجَبَةِ بِالنَّذْرِ كَالْفَقِيرِ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ، فَأَمَّا الْمُوسِرُ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَوَلَدَتْ لَا يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوُجُوبُ فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ وَفِي الثَّانِي لَمْ يَتَعَيَّنْ لِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِغَيْرِهَا فَكَذَا وَلَدُهَا.
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ: كَانَ أَصْحَابُنَا يَقُولُونَ يَجِبُ ذَبْحُ الْوَلَدُ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَسْرِ إلَيْهِ وَلَكِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَكَانَ كَجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا فَإِنْ ذَبَحَهُ تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ وَإِنْ بَاعَهُ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ، وَلَا يَبِيعُهُ وَلَا يَأْكُلُهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَذْبَحَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ذَبَحَهُ أَيَّامَ النَّحْرِ وَأَكَلَ مِنْهُ كَالْأُمِّ وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ الْوَلَدَ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ تَصَدَّقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ ذَبْحُهُ فَصَارَ كَالشَّاةِ الْمَنْذُورَةِ.
وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى: إذَا وَضَعَتْ الْأُضْحِيَّةُ فَذَبَحَ الْوَلَدَ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ الْأُمِّ أَجْزَأَهُ، فَإِنْ تَصَدَّقَ بِهِ يَوْمَ الْأَضْحَى قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ، قَالَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- أَنَّ الصِّغَارَ تَدْخُلُ فِي الْهَدَايَا وَيَجِبُ ذَبْحُهَا، وَلَوْ وَلَدَتْ الْأُضْحِيَّةُ تَعَلَّقَ بِوَلَدِهَا مِنْ الْحُكْمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ فَاتَ بِمُضِيِّ الْأَيَّامِ.
وَيُكْرَهُ لَهُ رُكُوبُ الْأُضْحِيَّةَ وَاسْتِعْمَالُهَا وَالْحَمْلُ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَعَلَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَقَصَهَا ذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِنُقْصَانِهَا، وَلَوْ آجَرَهَا صَاحِبُهَا لِيُحْمَلَ عَلَيْهَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: يَنْبَغِي أَنْ يَغْرَمَ مَا نَقَصَهَا الْحَمْلُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى فِي رَجُلٍ أَهْدَى نَاقَةً ثُمَّ آجَرَهَا ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهَا فَإِنَّ صَاحِبَهَا يَغْرَمُ مَا نَقَصَهَا ذَلِكَ وَيَتَصَدَّقُ بِالْكِرَاءِ كَذَا هَاهُنَا.
(وَأَمَّا) الَّذِي هُوَ فِي حَالِ التَّضْحِيَةِ فَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ التَّضْحِيَةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْأُضْحِيَّةَ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ التَّضْحِيَةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى آلَةِ التَّضْحِيَةِ: أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ التَّضْحِيَةِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ الذَّبْحُ فِي الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالنَّحْرُ فِي الْإِبِلِ وَيُكْرَهُ الْقَلْبُ مِنْ ذَلِكَ وَقَطْعُ الْعُرُوقِ الْأَرْبَعَةِ كُلِّهَا وَالتَّذْفِيفُ فِي ذَلِكَ وَأَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ مِنْ الْحُلْقُومِ لَا مِنْ الْقَفَا.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَذْبَحَ بِنَفْسِهِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ فَمُبَاشَرَتُهَا بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ مِنْ تَوْلِيَتِهَا غَيْرَهُ كَسَائِرِ الْقُرُبَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فَنَحَرَ مِنْهَا نَيِّفًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ أَعْطَى الْمُدْيَةَ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَنَحَرَ الْبَاقِينَ» وَهَذَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ يُحْسِنُ الذَّبْحَ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُحْسِنْ فَتَوْلِيَتُهُ غَيْرَهُ فِيهِ أَوْلَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: نَحَرْتُ بَدَنَةً قَائِمَةً مَعْقُولَةً فَلَمْ أَشُقَّ عَلَيْهَا فَكِدْتُ أُهْلِكُ نَاسًا لِأَنَّهَا نَفَرَتْ فَاعْتَقَدْتُ أَنْ لَا أَنْحَرَهَا إلَّا بَارِكَةً مَعْقُولَةً وَأُوَلِّيَ مَنْ هُوَ أَقْدَرُ عَلَى ذَلِكَ مِنِّي.
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ قَالَ أَنَسٌ: فَرَأَيْت النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا أَيْ عَلَى جَوَانِبِ عُنُقِهِمَا وَهُوَ يَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَذَبَحَ الْأَوَّلَ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَنْ آلِ مُحَمَّدٍ ثُمَّ ذَبَحَ الْآخَرَ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اللَّهُمَّ هَذَا عَمَّنْ شَهِدَ لَك بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ» وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ حَالَ الذَّبْحِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ لِمَا رَوَيْنَا وَإِذَا لَمْ يَذْبَحْ بِنَفْسِهِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ مُسْلِمًا فَإِنْ أَمَرَ كِتَابِيًّا يُكْرَهُ لِمَا قُلْنَا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَ الذَّبْحَ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِسَيِّدَتِنَا فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ قُومِي فَاشْهَدِي ضَحِيَّتَكِ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا مَغْفِرَةً لِكُلِّ ذَنْبٍ أَمَا إنَّهُ يُجَاءُ بِدَمِهَا وَلَحْمِهَا فَيُوضَعُ فِي مِيزَانِك وَسَبْعُونَ ضِعْفًا فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً فَإِنَّهُمْ أَصْلٌ لِمَا خُصُّوا بِهِ مِنْ الْخَيْرِ أَمْ لِآلِ مُحَمَّدٍ وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً فَقَالَ: هَذَا لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً».
وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا فَاطِمَةُ قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَكِ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلْتِيهِ وَقُولِي إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ» وَأَنْ يَدْعُوَ فَيَقُولَ: اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِمَا رَوَيْنَا، وَأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ أَوْ بَعْدَهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ فَقَالَ حِينَ وَجَّهَهُمَا: وَجَّهَتْ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ».
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ الْمُعَتِّمِ الْكِنَانِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ سَيِّدِنَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْأَضْحَى إلَى عِيدٍ فَلَمَّا صَلَّى قَالَ يَا قَنْبَرٌ أَدْنِ مِنِّي أَحَدَ الْكَبْشَيْنِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ قَالَ: وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ عَلِيٍّ فَذَبَحَهُ ثُمَّ دَعَا بِالثَّانِي فَفَعَلَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجَرِّدَ التَّسْمِيَةَ عَنْ الدُّعَاءِ فَلَا يَخْلِطَ مَعَهَا دُعَاءً وَإِنَّمَا يَدْعُو قَبْلَ التَّسْمِيَةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَيُكْرَهُ حَالَةَ التَّسْمِيَةِ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْأُضْحِيَّةَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ أَسْمَنَهَا وَأَحْسَنَهَا وَأَعْظَمَهَا لِأَنَّهَا مَطِيَّةُ الْآخِرَةِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَظِّمُوا ضَحَايَاكُمْ فَإِنَّهَا عَلَى الصِّرَاطِ مَطَايَاكُمْ» وَمَهْمَا كَانَتْ الْمَطِيَّةُ أَعْظَمَ وَأَسْمَنَ كَانَتْ عَلَى الْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ أَقْدَرَ، وَأَفْضَلُ الشَّاءِ أَنْ يَكُونَ كَبْشًا أَمْلَحَ أَقْرَنَ مَوْجُوءًا؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ» وَالْأَقْرَنُ: الْعَظِيمُ الْقَرْنِ، وَالْأَمْلَحُ: الْأَبْيَضُ.
وَرُوِيَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «دَمُ الْعَفْرَاءِ يَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَ دَمِ السَّوْدَاوَيْنِ وَإِنَّ أَحْسَنَ اللَّوْنِ عِنْدَ اللَّهِ الْبَيَاضُ، وَاَللَّهُ خَلَقَ الْجَنَّةَ بَيْضَاءَ» وَالْمَوْجُوءُ: قِيلَ هُوَ مَدْقُوقُ الْخُصْيَتَيْنِ، وَقِيلَ: هُوَ الْخَصِيُّ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ التَّضْحِيَةِ بِالْخَصِيِّ فَقَالَ: مَا زَادَ فِي لَحْمِهِ أَنْفَعُ مِمَّا ذَهَبَ مِنْ خُصْيَتَيْهِ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ التَّضْحِيَةِ فَالْمُسْتَحَبُّ هُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ؛ أَوَّلُهَا أَفْضَلُهَا وَلِأَنَّهُ مُسَارَعَةٌ إلَى الْخَيْرِ وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ- جَلَّ شَأْنُهُ- الْمُسَارِعِينَ إلَى الْخَيْرَاتِ السَّابِقِينَ لَهَا بِقَوْلِهِ- عَزَّ شَأْنُهُ- {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} وَقَالَ- عَزَّ شَأْنُهُ- {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أَيْ إلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ وَلِأَنَّ اللَّهَ- جَلَّ شَأْنُهُ- أَضَافَ عِبَادَهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِلُحُومِ الْقَرَابِينِ فَكَانَتْ التَّضْحِيَةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مِنْ بَابِ سُرْعَةِ الْإِجَابَةِ إلَى ضِيَافَةِ اللَّهِ- جَلَّ شَأْنُهُ-، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ بِالنَّهَارِ وَيُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ بِاللَّيْلِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَالصُّيُودِ، وَأَفْضَلُ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ لِأَهْلِ السَّوَادِ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَتَكَامَلُ آثَارُ أَوَّلِ النَّهَارِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى آلَةِ التَّضْحِيَةِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ آلَةُ الذَّبْحِ حَادَّةً مِنْ الْحَدِيدِ.
(وَأَمَّا) الَّذِي هُوَ بَعْدَ الذَّبْحِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَرَبَّصَ بَعْدَ الذَّبْحِ قَدْرَ مَا يَبْرُدُ وَيَسْكُنُ مِنْ جَمِيعِ أَعْضَائِهِ وَتَزُولُ الْحَيَاةُ عَنْ جَمِيعِ جَسَدِهِ وَيُكْرَهُ أَنْ يَنْخَعَ وَيَسْلُخَ قَبْلَ أَنْ يَبْرُدَ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَلِصَاحِبِ الْأُضْحِيَّةَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} وَلِأَنَّهُ ضَيْفُ اللَّهِ- جَلَّ شَأْنُهُ- فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ كَغَيْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ- عَزَّ شَأْنُهُ- وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الدِّمَاءَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ:
نَوْعٌ يَجُوزُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَنَوْعٌ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَنَوْعٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ، الْأَوَّلُ دَمُ الْأُضْحِيَّةَ نَفْلًا كَانَ أَوْ وَاجِبًا مَنْذُورًا كَانَ أَوْ وَاجِبًا مُبْتَدَأً، وَالثَّانِي دَمُ الْإِحْصَارِ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ وَدَمُ الْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ كَحَلْقِ الرَّأْسِ وَلُبْسِ الْمَخِيطِ وَالْجِمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجِنَايَاتِ، وَدَمُ النَّذْرِ بِالذَّبْحِ، وَالثَّالِثُ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ، فَعِنْدَنَا يُؤْكَلُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُؤْكَلُ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْمَنَاسِكِ ثُمَّ كُلُّ دَمٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ؛ إذْ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ لَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَكُلُّ دَمٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ إذْ لَوْ لَمْ يَجِبْ لَأَدَّى إلَى التَّسْيِيبِ.
وَلَوْ هَلَكَ اللَّحْمُ بَعْدَ الذَّبْحِ لَا ضَمَان عَلَيْهِ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا أَمَّا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ هَلَكَ عَنْ غَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ إنْ كَانَ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي يَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مُتَعَيِّنًا لِلتَّصَدُّقِ بِهِ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا وَلَوْ بَاعَهُ نَفَذَ بَيْعُهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى- عَزَّ شَأْنُهُ- {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا ضَحَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ وَيُطْعِمْ مِنْهُ غَيْرَهُ».
وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِغُلَامِهِ قَنْبَرٍ- حِينَ ضَحَّى بِالْكَبْشَيْنِ يَا قَنْبَرٌ خُذْ لِي مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِضْعَةً وَتَصَدَّقْ بِهِمَا بِجُلِّ وَدِهِمَا وَبِرُءُوسِهِمَا وَبِأَكَارِعِهِمَا، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ وَيَتَّخِذَ الثُّلُثَ ضِيَافَةً لِأَقَارِبِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَيَدَّخِرَ الثُّلُثَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} وَقَوْلِهِ- عَزَّ شَأْنُهُ- {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَكُلُوا مِنْهَا وَادَّخِرُوا» فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ مَا قُلْنَا وَلِأَنَّهُ يَوْمُ ضِيَافَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِلُحُومِ الْقَرَابِينِ فَيُنْدَبُ إشْرَاكُ الْكُلِّ فِيهَا وَيُطْعِمُ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ جَمِيعًا لِكَوْنِ الْكُلِّ أَضْيَافَ اللَّهِ تَعَالَى- عَزَّ شَأْنُهُ- فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَلَهُ أَنْ يَهَبَهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ جَازَ وَلَوْ حَبَسَ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ فِي الْإِرَاقَةِ.
(وَأَمَّا) التَّصَدُّقُ بِاللَّحْمِ فَتَطَوُّعٌ وَلَهُ أَنْ يَدَّخِرَ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «إنِّي كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ إمْسَاكِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَلَا فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ» وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِأَجْلِ الرَّأْفَةِ دُونَ حَضْرَةِ الْأَضْحَى» أَلَّا إنَّ إطْعَامَهَا وَالتَّصَدُّقَ أَفْضَلُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ ذَا عِيَالٍ وَغَيْرَ مُوَسَّعِ الْحَالِ فَإِنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَدَعَهُ لِعِيَالِهِ وَيُوسِعَ بِهِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ وَحَاجَةَ عِيَالِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَاجَةِ غَيْرِهِ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِغَيْرِك».
وَلَا يَحِلُّ بَيْعُ جِلْدِهَا وَشَحْمِهَا وَلَحْمِهَا وَأَطْرَافِهَا وَرَأْسِهَا وَصُوفِهَا وَشَعْرِهَا وَوَبَرِهَا وَلَبَنِهَا الَّذِي يَحْلُبُهُ مِنْهَا بَعْدَ ذَبْحِهَا بِشَيْءٍ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، وَلَا أَنْ يُعْطِيَ أَجْرَ الْجَزَّارِ وَالذَّابِحِ مِنْهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ» وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا، وَلَا تُعْطِي أَجْرًا لِجَزَّارٍ مِنْهَا وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- أَنَّهُ قَالَ: إذَا ضَحَّيْتُمْ فَلَا تَبِيعُوا لُحُومَ ضَحَايَاكُمْ وَلَا جُلُودَهَا وَكُلُوا مِنْهَا وَتَمَتَّعُوا وَلِأَنَّهَا مِنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ- عَزَّ شَأْنُهُ- الَّتِي أَضَافَ بِهَا عِبَادَهُ وَلَيْسَ لِلضَّيْفِ أَنْ يَبِيعَ مِنْ طَعَامِ الضِّيَافَةِ شَيْئًا فَإِنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَنْفُذُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلَ الذَّبْحِ وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ ذَهَبَتْ عَنْهُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَلِأَنَّهُ اسْتَفَادَهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ وَهُوَ الْبَيْعُ فَلَا يَخْلُو عَنْ خُبْثٍ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ وَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِجِلْدِ أُضْحِيَّتِهِ فِي بَيْتِهِ بِأَنْ يَجْعَلَهُ سِقَاءً أَوْ فَرْوًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا اتَّخَذَتْ مِنْ جِلْدِ أُضْحِيَّتِهَا سِقَاءً وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِلَحْمِهَا فَكَذَا بِجِلْدِهَا، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِمَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ كَالْجِرَابِ وَالْمُنْخُلِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ الَّذِي يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فَكَانَ الْمُبْدَلُ قَائِمًا مَعْنًى فَكَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِ الْجِلْدِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْجِلْدِ فَلَا يَكُونُ الْجِلْدُ قَائِمًا مَعْنًى وَاَللَّهُ تَعَالَى- عَزَّ شَأْنُهُ- أَعْلَمُ.

.كِتَابُ النَّذْرِ:

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِ النَّذْرِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ النَّذْرِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَرُكْنُ النَّذْرِ هُوَ الصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لِلَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ عَلَيَّ كَذَا، أَوْ عَلَيَّ كَذَا، أَوْ هَذَا هَدْيٌ، أَوْ صَدَقَةٌ، أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ، أَوْ مَا أَمْلِكُ صَدَقَةٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

.فَصْلٌ: شَرَائِطُ الرُّكْنِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّاذِرِ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنْذُورِ بِهِ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الرُّكْنِ.
أَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالنَّاذِرِ فَشَرَائِطُ الْأَهْلِيَّةِ:
(مِنْهَا) الْعَقْلُ.
(وَمِنْهَا) الْبُلُوغُ، فَلَا يَصِحُّ نَذْرُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، لِأَنَّ حُكْمَ النَّذْرِ وُجُوبُ الْمَنْذُورِ بِهِ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ، وَكَذَا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الشَّرَائِعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ مِنْ الشَّرَائِعِ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً؟ فَكَذَا بِالنَّذْرِ، إذْ الْوُجُوبُ عِنْدَ وُجُودِ الصِّيغَةِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِإِيجَابِ الْعَبْدِ، إذْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ وِلَايَةُ الْإِيجَاب، وَإِنَّمَا الصِّيغَةُ عَلَمٌ عَلَى إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
(وَمِنْهَا) الْإِسْلَامُ فَلَا يَصِحُّ نَذْرُ الْكَافِرِ، حَتَّى لَوْ نَذَرَ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَنْذُورِ بِهِ قُرْبَةً شَرْطُ صِحَّةِ النَّذْرِ، وَفِعْلُ الْكَافِرِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ قُرْبَةً.
(وَأَمَّا) حُرِّيَّةُ النَّاذِرِ فَلَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ؛ فَيَصِحُّ نَذْرُ الْمَمْلُوكِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَنْذُورُ بِهِ مِنْ الْقُرَبِ الدِّينِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ الْقُرَبِ الْمَالِيَّةِ كَالْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ لِلْحَالِ وَلَوْ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْتُ هَذِهِ الشَّاةَ فَهِيَ هَدْيٌ، أَوْ إنْ اشْتَرَيْتُ هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ، فَعَتَقَ لَمْ يَلْزَمْهُ حَتَّى يُضِيفَهُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ.
(وَأَمَّا) الطَّوَاعِيَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا فِي الْيَمِينِ، وَكَذَا الْجِدُّ وَالْهَزْلُ وَاَللَّهُ- عَزَّ شَأْنُهُ- أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَنْذُورِ بِهِ فَأَنْوَاعٌ:
(مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ شَرْعًا، فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ شَرْعًا كَمَنْ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا أَكَلَ فِيهِ، وَكَالْمَرْأَةِ إذَا قَالَتْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ أَيَّامَ حَيْضِي؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحِلَّ الصَّوْمِ، وَالْأَكْلَ مُنَافٍ لِلصَّوْمِ حَقِيقَةً وَالْحَيْضَ مُنَافٍ لَهُ شَرْعًا؛ إذْ الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ شَرْطُ وُجُودِ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ وَلَوْ قَالَتْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا فَحَاضَتْ فِي غَدٍ، أَوْ قَالَتْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنَّ أَصُومَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ فِي يَوْمٍ حَاضَتْ فِيهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهَا قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الصَّوْمِ.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ، فَقَدِمَ فِي النَّهَارِ- أَنَّهُ إنْ قَدِمَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُفْطِرَاتِ يَلْزَمُهُ صَوْمُهُ، وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَ مَا تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُفْطِرَاتِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمَ يَوْمٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ يُوجَدُ فِيهِ قُدُومُ فُلَانٍ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِهَذَا الْيَوْمِ قَبْلَ الْقُدُومِ وَلَا دَلِيلَ الْعِلْمِ، وَلَا وُجُوبَ لِهَذَا الصَّوْمِ بِدُونِ الْعِلْمِ؛ أَوْ دَلِيلِهِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ أَدَاؤُهُ عَلَى قَصْدِ الْمُؤَدِّي فِي تَحْصِيلِهِ لَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِهِ أَوْ دَلِيلِ الْعِلْمِ، فَلَمْ يَجِبْ الصَّوْمُ مَا لَمْ يُوجَدْ الْيَوْمُ الْمَوْصُوفُ، وَلَا وُجُودَ إلَّا بِالْقُدُومِ، فَصَارَ الْوُجُوبُ عَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ مُتَعَلِّقًا بِالْقُدُومِ، وَوُجُوبُ صَوْمِ يَوْمٍ لَمْ تَزُلْ فِيهِ الشَّمْسُ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ شَيْئًا مِنْ الْمُفْطِرَاتِ مُتَصَوَّرٌ، كَمَا لَوْ أَنْشَأَ النَّذْرَ فَوَجَبَ عَلَيْهِ لِلْحَالِ، وَلَا تَصَوُّرَ لَهُ بَعْد التَّنَاوُلِ وَبَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِأَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ فَقَدِمَ بَعْدَ مَا أَكَلَ، أَوْ بَعْدَ الزَّوَالِ- حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي بَابِ النَّذْرِ يَجِبُ الْفِعْلُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْ الْعَبْدِ فَصَارَ هَذَا وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةِ عَلَى السَّوَاءِ.
(وَأَمَّا) فِي بَابِ الْيَمِينِ: فَالْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ، بَلْ الْوَاجِبُ هُوَ الِامْتِنَاعُ عَنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّه- تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ- وَإِنَّمَا وَجَبَ الْفِعْلُ لِضَرُورَةِ حُصُولِ الْبِرِّ، وَحُصُولُ الْبِرِّ أَيْضًا لِضَرُورَةِ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْهَتْكِ فَوُجُوبُهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْعِلْمُ، فَكَانَ وُجُوبُ تَحْصِيلِ الْبِرِّ وَالِامْتِنَاعِ ثَابِتًا قَبْلَ وُجُودِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْقُدُومُ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْبِرُّ مِنْ أَوَّلِ وُجُودِ هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي حَلَفَ أَنْ يَصُومَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، فَإِذَا لَمْ يَصُمْ: بِأَنْ أَكَلَ أَوْ امْتَنَعَ مِنْ النَّذْرِ حَتَّى زَالَتْ الشَّمْسُ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ لِفَوَاتِ الْبِرِّ وَاَللَّهُ- عَزَّ شَأْنُهُ- أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ رَأْسًا كَالنَّذْرِ بِالْمَعَاصِي بِأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ- عَزَّ شَأْنُهُ- عَلَيَّ أَنْ أَشْرَبَ الْخَمْرَ أَوْ أَقْتُلَ فُلَانًا أَوْ أَضْرِبَهُ أَوْ أَشْتُمَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى»، وَقَوْلِهِ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى فَلَا يَعْصِهِ»، وَلِأَنَّ حُكْمَ النَّذْرِ وُجُوبُ الْمَنْذُورِ بِهِ، وَوُجُوبُ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ مُحَالٌ وَكَذَا النَّذْرُ بِالْمُبَاحَاتِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِعَدَمِ وَصْفِ الْقُرْبَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِعْلًا وَتَرْكًا، وَكَذَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ طَلَاقُ امْرَأَتِي؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَلَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ، وَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ؟ فِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً مَقْصُودَةً، فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ وَالْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَالْأَذَانِ وَبِنَاءِ الرِّبَاطَاتِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ قُرَبًا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْبٍ مَقْصُودَةً وَيَصِحُّ النَّذْرُ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْإِحْرَامِ بِهِمَا وَالْعِتْقِ وَالْبَدَنَةِ وَالْهَدْيِ وَالِاعْتِكَافِ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا قُرَبٌ مَقْصُودَةٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ تَعَالَى فَلْيُطِعْهُ»، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ وَفَاؤُهُ بِمَا سَمَّى»؛ إلَّا أَنَّهُ خُصَّ مِنْهُ الْمُسَمَّى الَّذِي لَيْسَ بِقُرْبَةٍ أَصْلًا، وَاَلَّذِي لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ فِيمَا وَرَاءَهُ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ أَصَّلَ فِي هَذَا أَصْلًا فَقَالَ: مَا لَهُ أَصْلٌ فِي الْفُرُوضِ يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا سِوَى الِاعْتِكَافِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا لَهُ أَصْلٌ فِي الْفُرُوضِ، وَالِاعْتِكَافُ لَهُ أَصْلٌ أَيْضًا فِي الْفُرُوضِ وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَمَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْفُرُوضِ لَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَة وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِهَا وَعُلِّلَ بِأَنَّ النَّذْرَ إيجَابُ الْعَبْدِ فَيُعْتَبَرُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ، أَوْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ يَصِحُّ نَذْرُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَيُفْطِرُ وَيَقْضِي وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ لَهُمَا لِأَنَّهُ نَذْرٌ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ؛ لِكَوْنِ الصَّوْمِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ؛ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَكُونُ مَعْصِيَةً، وَالنَّذْرُ بِالْمَعَاصِي لَا يَصِحُّ لِمَا بَيَّنَّا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَلَا يُضْمَنُ بِالْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفْسَادِ بِأَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرَ.
(وَلَنَا) أَنَّهُ نَذْرٌ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ فَيَصِحُّ النَّذْرُ، كَمَا لَوْ نَذَرَ بِالصَّوْمِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ النَّصُّ وَالْمَعْقُولُ.
(أَمَّا) النَّصُّ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَبَرًا عَنْ اللَّهِ- تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ- «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ».
(وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّهُ سَبَبُ التَّقْوَى وَالشُّكْرِ وَمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ فِي زَمَانِ الصَّوْمِ يَتَّقِي الْحَلَالَ، فَالْحَرَامُ أَوْلَى، وَيَعْرِفُ قَدْرَ نِعَمِ اللَّهِ- تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ- عَلَيْهِ بِمَا تَجَشَّمَ مِنْ مَرَارَةِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ؛ فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الشُّكْرِ، وَعَلَى الْإِحْسَانِ إلَى الْفُقَرَاءِ؛ لَمَّا عَرَفَ قَدْرَ مُقَاسَاةِ الْمُبْتَلَى بِالْجُوعِ وَالْفَقْرِ وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةٌ فِي الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَإِنَّهَا مَعَانٍ مُسْتَحْسَنَةٌ عَقْلًا، وَالنَّهْيُ لَا يَرِدُ عَمَّا عُرِفَ حُسْنُهُ عَقْلًا لِمَا فِيهِ مِنْ التَّنَاقُضِ فَيُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ مُجَاوِرٍ لَهُ صِيَانَةً لِحُجَجِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ التَّنَاقُضِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
(وَأَمَّا) فَصْلُ الشُّرُوعِ وَالْقَضَاءِ فَمَمْنُوعٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- إنَّمَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْطَارِ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْإِتْمَامِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ لِضَرُورَةِ صِيَانَةِ الْمُؤَدَّى عَنْ الْإِبْطَالِ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ الْعَمَلِ حَرَامٌ، وَهَاهُنَا صَاحِبُ الْحَقِّ وَهُوَ اللَّهُ- تَعَالَى جَلَّتْ عَظَمَتُهُ- رَضِيَ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ، فَلَا يَحْرُمُ الْإِبْطَالُ فَلَا يَلْزَمُ الْإِتْمَامُ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ ضَرُورَةُ لُزُومِ الْإِتْمَامِ فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ لَا يَجِبُ.
وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ أَوْ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى بَكَّةَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَعَلَيْهِ ذَبْحُ شَاةٍ لِرُكُوبِهِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَكَانَ نَوْعَانِ: مَكَانٌ يَصِحُّ الدُّخُولُ فِيهِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَهُوَ مَا سِوَى الْحَرَمِ: كَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَمَاكِنِ وَمَكَانٌ لَا يَصِحُّ الدُّخُولُ فِيهِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَهُوَ، الْحَرَمُ وَالْحَرَمُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَكَّةَ، وَمَكَّةُ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ عَلَى الْكَعْبَةِ، فَالنَّاذِرُ إمَّا أَنْ يُسَمَّى فِي النَّذْرِ الْكَعْبَةَ، أَوْ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مَكَّةَ أَوْ بَكَّةَ أَوْ الْحَرَمَ أَوْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَالْأَفْعَالُ الَّتِي يُوجِبُهَا عَلَى نَفْسِهِ شِبْهَ أَلْفَاظِ الْمَشْيِ وَالْخُرُوجِ وَالسَّفَرِ وَالرُّكُوبِ وَالذَّهَابِ وَالْإِيَابِ فَإِنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَأَضَافَهُ إلَى مَكَان يَصِحُّ دُخُولُهُ فِيهِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لَا يَصِحُّ إيجَابُهُ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ التَّحَوُّلَ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان، وَذَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي نَذَرْتُ إنْ فَتَحَ لَك مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ مِائَتَيْ رَكْعَةٍ فِي مِائَةِ مَسْجِدٍ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: صَلِّي فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ»، فَلَمْ يُصَحِّحْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَذْرَهَا بِالصَّلَاةِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ وَالنَّذْرُ بِخِلَافِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، بِأَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ لَأَذْهَبَنَّ إلَى مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ لَأُسَافِرَنَّ، أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ الْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يَقِفُ انْعِقَادُهَا عَلَى كَوْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ قُرْبَةً، بَلْ يَنْعَقِدُ عَلَى الْقُرْبَةِ وَغَيْرِهَا، بِخِلَافِ النَّذْرِ.
وَإِنْ أَضَافَ إيجَابَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي لَا يَصِحُّ الدُّخُولُ فِيهِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ يُنْظَرُ: فَإِنْ أَضَافَ إيجَابَ مَا سِوَى الْمَشْيِ إلَيْهِ لَا يَصِحُّ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ التَّحَوُّلَ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ أَضَافَ إيجَابَ الْمَشْيِ إلَيْهِ فَإِنْ ذَكَر سِوَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْكِنَةِ مِنْ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَكَّةَ وَبَكَّةَ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْحَرَمِ، بِأَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَشْيَ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمَسْجِدِ الْخَيْفِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِي الْحَرَمِ لَا يَصِحّ نَذْرُهُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ ذَكَر الْكَعْبَةَ وَبَيْتَ اللَّهِ- عَزَّ شَأْنُهُ- أَوْ مَكَّةَ أَوْ بَكَّةَ، يَصِحُّ نَذْرُهُ وَيَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا، وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَذَبَحَ لِرُكُوبِهِ شَاةً، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ النَّذْرِ أَنْ يَكُونَ الْمَنْذُورُ بِهِ قُرْبَةً مَقْصُودَةً، وَلَا قُرْبَةَ فِي نَفْسِ الْمَشْيِ، وَإِنَّمَا الْقُرْبَةُ فِي الْإِحْرَامِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ بِسَائِرِ الْأَلْفَاظِ سِوَى لَفْظِ الْمَشْيِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ عِنْدَهُمْ كِنَايَةٌ عَنْ الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ، يَسْتَعْمِلُونَهُ لِالْتِزَامِ الْإِحْرَامِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْقَلَ فِيهِ وَجْهُ الْكِنَايَةِ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَضْرِبَ بِثَوْبِي حَطِيمَ الْكَعْبَةِ كِنَايَةً عَنْ الْتِزَامِ الصَّدَقَةِ بِاصْطِلَاحِهِمْ، وَالْإِحْرَامُ يَكُونُ بِالْحِجَّةِ أَوْ بِالْعُمْرَةِ فَيَلْزَمُهُ أَحَدُهُمَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ، فَإِنَّهَا مَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِالْتِزَامِ الْإِحْرَامِ بِهَا، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ عُرْفُهُمْ وَعَادَتُهُمْ، وَلَا عُرْفَ هُنَاكَ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ مَاشِيًا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَشْيَ، وَفِيهِ زِيَادَةُ قُرْبَةٍ، قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ حَجَّ مَاشِيًا فَلَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ قِيلَ: وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَاحِدَةٌ بِسَبْعِمِائَةٍ»، فَجَازَ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ كَصِفَةِ التَّتَابُعِ فِي الصَّوْمِ، فَيَمْشِي حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَقَعُ الْفَرَاغُ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، إلَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَيَذْبَحَ لِرُكُوبِهِ شَاةً لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ أُخْتَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِكَ: مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتُرِقْ دَمًا».
وَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ الْبَيْتَ مَاشِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِك فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ شَاةً وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى حَافِيَةً حَاسِرَةً، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُقْبَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ عَنَاءِ أُخْتِكَ مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ شَاةً وَتُحْرِمْ إنْ شَاءَتْ بِحَجَّةٍ وَإِنْ شَاءَتْ بِعُمْرَةٍ».
وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ الْحَجَّ مَاشِيًا حَجَّ وَرَكِبَ وَذَبَحَ لِرُكُوبِهِ شَاةً رَوَاهُ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا اسْتَوَى فِيهِ لَفْظُ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ اللَّهِ وَمَكَّةَ وَبَكَّةَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الْأُخَرِ، يُقَالُ: فُلَانٌ مَشَى إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَإِلَى الْكَعْبَةِ وَإِلَى مَكَّةَ، وَإِلَى بَكَّةَ وَلَا يُقَالُ مَشَى إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنْ ذَكَر الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوْ الْحَرَمِ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّ الْحَرَمَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْبَيْتِ وَعَلَى مَكَّةَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَإِلَى مَكَّةَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ بِإِيجَابِ الْمَشْيِ الْمُضَافِ إلَى مَكَان مَا، لِمَا ذَكَر أَنَّ الْمَشْيَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ، إذْ هُوَ انْتِقَالٌ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان، فَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ قُرْبَةً، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ بِسَائِرِ الْأَلْفَاظِ إلَّا أَنَّا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْإِحْرَامَ فِي لَفْظِ الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّه أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ أَوْ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى بَكَّةَ لِلْعُرْفِ، حَيْثُ تَعَارَفُوا اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ، وَلَمْ يَتَعَارَفُوا اسْتِعْمَالَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ مَشَى إلَى مَكَّةَ وَالْكَعْبَةِ وَبَيْتِ اللَّهِ وَلَا يُقَالُ مَشَى إلَى الْحَرَمِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ كَمَا يُقَالُ مَشَى إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالْكِنَايَةُ يُتْبَعُ فِيهَا عَيْنُ اللَّفْظِ لَا الْمَعْنَى، بِخِلَافِ الْمَجَازِ فَإِنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ الْمَعْنَى اللَّازِمُ الْمَشْهُورُ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ ثَابِتَةٌ بِالِاصْطِلَاحِ كَالْأَسْمَاءِ الْمَوْضُوعَةِ، فَيُتَّبَعُ فِيهَا الْعُرْفُ، وَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ بِخِلَافِ الْمَجَازِ.
وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَهُوَ يَنْوِي مَسْجِدًا مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ سِوَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَسْجِدٍ بَيْتُ اللَّهِ تَعَالَى فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ، عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ إنْ كَانَتْ إرَادَةُ الْكَعْبَةِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ لَا غَيْرَ لَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ بَيْنِهِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكْتَفِي فِيهِ بِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ إيَّاهُ فِي الْجُمْلَةِ.
وَلَوْ قَالَ: أَنَا أُحْرِمُ أَوْ أَنَا مُحْرِمٌ أَوْ أُهْدِي أَوْ أَمْشِي إلَى الْبَيْتِ، فَإِنْ نَوَى بِهِ الْإِيجَابَ يَكُونُ إيجَابًا؛ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِيجَابُ، كَقَوْلِنَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إنَّهُ يَكُونُ تَوْحِيدًا، وَكَقَوْلِ الشَّاهِدِ عِنْدَ الْقَاضِي: أَشْهَدُ أَنَّهُ يَكُونُ شَهَادَةً، فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَإِنْ نَوَى أَنْ يَعِدَ مِنْ نَفْسِهِ عِدَةً وَلَا يُوجِبَ شَيْئًا كَانَ عِدَةً وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الْعِدَةَ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعِدَاتِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى الْوَعْدِ؛ لِأَنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَيْهِ، هَذَا إذَا لَمْ يُعَلِّقْهُ بِالشَّرْطِ، فَإِنْ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ بِأَنْ قَالَ إنْ فَعَلَتْ كَذَا فَأَنَا أُحْرِمُ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي بَيَّنَّا أَنَّهُ إنْ نَوَى الْإِيجَابَ يَكُونُ إيجَابًا، وَإِنْ نَوَى الْوَعْدَ يَكُونُ وَعْدًا لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى الْإِيجَابِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْعِدَاتِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالشُّرُوطِ، وَإِنَّ الْوَاجِبَاتِ تَتَعَلَّقُ بِهَا، فَالْمَعْرِفَةُ إلَى الْإِيجَابِ بِقَرِينَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ وَلَمْ تُوجَدْ الْقَرِينَةُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِالشَّرْطِ عَلَى الْوَعْدِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْإِيجَابَ، وَفِي الْمُعَلَّقِ يَقَعُ عَلَى الْإِيجَابِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْوَعْدَ.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَ وَلَدِي أَوْ أَذْبَحَ وَلَدِي يَصِحُّ نَذْرُهُ وَيَلْزَمُهُ الْهَدْيُ وَهُوَ نَحْرُ الْبَدَنَةِ أَوْ ذَبْحُ الشَّاةِ، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْإِبِلُ ثُمَّ الْبَقَرُ ثُمَّ الشَّاةُ، وَإِنَّمَا يَنْحَرُ أَوْ يَذْبَحُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَرَمِ أَوْ لَا، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ نَذْرُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ: أَنَّهُ نَذْرٌ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ، وَالنَّذْرُ بِالْمَعَاصِي غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ بِلَفْظِ الْقَتْلِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى»، وَالْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ النَّذْرُ بِمَا هُوَ طَاعَةٌ مَقْصُودَةٌ وَقُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَقَدْ نَذَرَ بِمَا هُوَ طَاعَةٌ مَقْصُودَةٌ وَقُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ بِذَبْحِ الْوَلَدِ تَقْدِيرًا بِمَا هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ وَهُوَ ذَبْحُ الشَّاةِ، فَيَصِحُّ النَّذْرُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ عَلَى وَجْهٍ يُظْهِرُ أَثَرَ الْوُجُوبِ فِي الشَّاةِ الَّتِي هِيَ خَلَفٌ عَنْهُ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي إذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ رَجَبَ أَنَّهُ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ، وَدَلِيلُ مَا قُلْنَا الْحَدِيثُ وَضَرْبٌ مِنْ الْمَعْقُولِ.
(أَمَّا) الْحَدِيثُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ» أَرَادَ أَوَّلَ آبَائِهِ مِنْ الْعَرَبِ وَهُوَ سَيِّدُنَا إسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَآخِرَ آبَائِهِ حَقِيقَةً وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، سَمَّاهُمَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَبِيحَيْنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا مَا كَانَا ذَبِيحَيْنِ حَقِيقَةً فَكَانَا ذَبِيحَيْنِ تَقْدِيرًا بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ لِقِيَامِ الْخَلَفِ مَقَامَ الْأَصْلِ.
(
وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ إنَّمَا يَقْصِدُ بِنَذْرِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، إلَّا أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّقَرُّبِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ تَحْقِيقًا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُرَادًا مِنْ النَّذْرِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَبْحِهِ تَقْدِيرًا بِذَبْحِ الْخَلَفِ وَهُوَ ذَبْحُ الشَّاةِ فَكَانَ هَذَا نَذْرًا بِذَبْحِ الْوَلَدِ تَقْدِيرًا بِذَبْحِ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ حَقِيقَةً، كَالشَّيْخِ الْفَانِي إذَا نَذَرَ بِالصَّوْمِ وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ بِلَفْظِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ بِالنَّذْرِ وَقَعَ لِلْوَاجِبِ عَلَى سَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْوَاجِبُ هُنَاكَ بِالْإِيجَابِ الْمُضَافِ إلَى ذَبْحِ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ- تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ-: {إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} عَلَى أَنَّ هَذَا حُكْمٌ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا بِالشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظِ الذَّبْحِ لَا بِلَفْظِ الْقَتْلِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْقَتْلِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي تَفْوِيتِ الْحَيَاةِ عَلَى سَبِيلِ الْقُرْبَةِ، وَالذَّبْحُ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ بِقَتْلِ شَاةٍ لَا يَلْزَمُهُ، وَلَوْ نَذَرَ بِذَبْحِهَا لَزِمَهُ.
وَلَوْ نَذَرَ بِنَحْرِ نَفْسِهِ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ، وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَلَوْ نَذَرَ بِنَحْرِ وَلَدِ وَلَدِهِ ذُكِرَ فِي شَرْحِ الْآثَارِ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ.
وَلَوْ نَذَرَ بِنَحْرِ وَالِدَيْهِ أَوْ جَدِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ- يَصِحُّ نَذْرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ لَا يَصِحُّ.
وَلَوْ نَذَرَ بِذَبْحِ عَبْدِهِ: عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ لَا يَصِحُّ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْوَلَدِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَعْنَى فِي الْوَلَدِ، فَالْمَعْنَى فِي الْوَلَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ أَنَّهُ نَذْرٌ بِالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذَبْحِ مَا هُوَ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْوَالِدَيْنِ وَلَا يُوجَدُ فِي الْعَبْدِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَعْنَى فِي الْوَلَدِ أَنَّ النَّذْرَ بِذَبْحِهِ تَقَرُّبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ مِنْ مَكَاسِبِهِ، وَالْوَلَدُ فِي مَعْنَى الْمَمْلُوكِ لَهُ شَرْعًا، قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ» وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ، فَعَدَّى الْحُكْمَ إلَى الْمَمْلُوكِ حَقِيقَةً وَهُوَ الْعَبْدُ وَإِلَى النَّفْسِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ لِكَوْنِهِمَا فِي مَعْنَى الْمَمْلُوكِ لَهُ، وَلَمْ يُعَدِّ إلَى الْوَالِدَيْنِ لِانْعِدَامِ هَذَا الْمَعْنَى، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ نَذْرُ الْجَدِّ بِذَبْحِ الْحَافِدِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ.
وَإِذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْهَدْيَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: إنْ شَاءَ أَهْدَيْ شَاةً، وَإِنْ شَاءَ بَقَرَةً، وَإِنْ شَاءَ إبِلًا وَأَفْضَلُهَا أَعْظَمُهَا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بَدَنَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَالْإِبِلُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَدَانَةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ وَلَوْ أَوْجَبَ جَزُورًا فَعَلَيْهِ الْإِبِلُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَزُورِ يَقَعُ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا إلَّا مَا يَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ وَهُوَ الثَّنِيُّ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ إذَا كَانَ ضَخْمًا، وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدْيِ الَّذِي أَوْجَبَ إلَّا فِي الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْسَ الْبَيْتِ بَلْ الْبُقْعَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَهِيَ الْحَرَمُ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يُرَاقُ فِي الْبَيْتِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} نَفْسُ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَهَاهُنَا أَضَافَهُ إلَى الْبَيْتِ، لِذَلِكَ افْتَرَقَا؛ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى مَكَانِ الْهَدَايَا، وَمَكَانُ الْهَدَايَا هُوَ الْحَرَمُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهَا إلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى رُكُوبِهَا رَكِبَهَا، وَيَضْمَنُ مَا نَقَصَ رُكُوبُهُ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْمَنَاسِكِ.
وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُهْدِيَ مَالًا بِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الذَّبْحَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ بِقِيمَتِهِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُذْبَحُ ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْكُوفَةِ جَازَ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ.
وَلَوْ أَوْجَبَ بَدَنَةً فَذَبَحَهَا فِي الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ ذَبَحَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ عَلَى الْفُقَرَاءِ جَازَ عَنْ نَذْرِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَوْ أَوْجَبَ جَزُورًا فَلَهُ أَنْ يَنْحَرَهُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَيَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهِ وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْحَجِّ.
وَلَوْ قَالَ مَا أَمْلِكُ هَدْيٌ أَوْ قَالَ مَا أَمْلِكُ صَدَقَةٌ يُمْسِكُ بَعْضَ مَالِهِ وَيُمْضِي الْبَاقِيَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْهَدْيَ وَالصَّدَقَةَ إلَى جَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ جِنْسٍ مِنْ جِنْسِ أَمْوَالِهِ، وَيَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ إلَّا أَنَّهُ يُمْسِكُ بَعْضَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» فَكَانَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ مِقْدَارَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْفِيهِ إلَى أَنْ يَكْتَسِبَ، فَإِذَا اكْتَسَبَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ انْتَفَعَ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ وَاجِبَ الْإِخْرَاجِ عَنْ مِلْكِهِ لِجِهَةِ الصَّدَقَةِ، فَكَانَ عَلَيْهِ عِوَضُهُ، كَمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ.
وَلَوْ قَالَ مَالِي صَدَقَةٌ فَهَذَا عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي فِيهَا الزَّكَاةُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدُورِ السُّكْنَى وَثِيَابِ الْبَدَنِ وَالْأَثَاثِ وَالْعُرُوضِ الَّتِي لَا يَقْصِدُ بِهَا التِّجَارَةَ وَالْعَوَامِلَ وَأَرْضَ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مِقْدَارِ النِّصَابِ وَمَا دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الزَّكَاةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْجِنْسُ لَا الْقَدْرُ؟ وَلِهَذَا قَالُوا: إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ جِنْسُ مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، فَإِنْ قَضَى دِينَهُ بِهِ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِمِثْلِهِ لِمَا ذَكَرنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرنَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ كَمَا فِي فَصْلِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ اسْمٌ لِمَا يُتَمَوَّلُ كَمَا أَنَّ الْمِلْكَ اسْمٌ لِمَا يُمْلَكُ، فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَمْوَالِ كَالْمِلْكِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النَّذْرَ يُعْتَبَرُ بِالْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ بِإِيجَابِ اللَّهِ- جَلَّ شَأْنُهُ- وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْ الْعَبْدِ مُبَاشَرَةُ السَّبَبِ الدَّالِ عَلَى إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ الْإِيجَابُ الْمُضَافُ إلَى الْمَالِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَمْرِ وَهُوَ الزَّكَاةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، وَقَوْلِهِ- عَزَّ شَأْنُهُ-: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} وَنَحْوُ ذَلِكَ تَعَلَّقَ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ فَكَذَا فِي النَّذْرِ وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- إذَا حَلَفَ لَا يَمْلِكُ مَالًا، وَلَا نِيَّةَ، لَهُ وَلَيْسَ لَهُ مَالُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَالِ لَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَلَا أَحْفَظُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا نَوَى بِهَذَا النَّذْرِ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُ- دَارُهُ تَدْخُلُ فِي نَذْرِهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا دُونَ النِّصَابِ وَلَا أَحْفَظُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا.
وَإِذَا كَانَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ عُشْرِيَّةٌ أَوْ غَلَّةٌ عُشْرِيَّةٌ تَصَدَّقَ بِهَا فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْعُشْرُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَدْخُلُ الْأَرْضُ فِي النَّذْرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَتَصَدَّقُ بِهَا لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا فَتَدْخُلُ فِي النَّذْرِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنْهَا فَلَا تَدْخُلُ.
قَالَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا جَعَلَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُطْعِمَ عَشْرَةَ مَسَاكِينَ وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنْ أَطْعَمَ خَمْسَةً لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ يُعْتَبَرُ بِأَصْلِ الْإِيجَابِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِعَدَدٍ مِنْ الْمَسَاكِينِ لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ إلَى بَعْضِهِمْ إلَّا عَلَى التَّفْرِيقِ فِي الْأَيَّامِ فَكَذَا النَّذْرُ.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِيهَا جَمِيعَ الْمَسَاكِينُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}، كَذَلِكَ النَّذْرُ.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطْعِمَ هَذَا الْمِسْكِينَ هَذَا الطَّعَامَ بِعَيْنِهِ فَأَعْطَى ذَلِكَ الطَّعَامَ غَيْرَهُ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِمَالٍ مُتَعَيَّنٍ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهَا الْمِسْكِينُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَيَّنَ الْمَالَ صَارَ هُوَ الْمَقْصُودَ فَلَا يُعْتَبَرُ تَعْيِينُ الْفَقِيرِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعْطِيَ الَّذِي عَيَّنَهُ.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطْعِمَ هَذَا الْمِسْكَيْنِ شَيْئًا سَمَّاهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ، فلابد أَنْ يُعْطِيَهُ الَّذِي سَمَّاهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُعَيِّنْ الْمَنْذُورَ صَارَ تَعْيِينُ الْفَقِيرِ مَقْصُودًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهُ.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ إطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ وَهُوَ لَا يَنْوِي أَنْ يُطْعِمَ عَشْرَةَ مَسَاكِينَ، إنَّمَا نَوَى أَنْ يُطْعِمَ وَاحِدًا مَا يَكْفِي عَشْرَةً أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ اسْمٌ لِلْمِقْدَارِ، فَكَأَنَّهُ أَوْجَبَ مِقْدَارَ مَا يُطْعِمُ عَشْرَةً، فَيَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ بَعْضَهُمْ.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ، ثُمَّ قَالَ: إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، فَكَلَّمَ فُلَانًا وَقَدِمَ فُلَانٌ- أَجْزَأَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ إذَا سَمَّى يَوْمًا بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ وُجُوبَ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِشَرْطَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِيَالِهِ، فَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطَانِ مَعًا وَجَبَتْ بِالْإِيجَابَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ سَبَبَيْنِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ جَائِزٌ، فَإِنْ وُجِدَا عَلَى التَّعَاقُبِ وَجَبَ بِالْأَوَّلِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّانِي حُكْمٌ.
نَظِيرُهُ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلَ زَيْدٌ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ إنْ دَخَلَهَا عَمْرٌو فَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنْ دَخَلَا مَعًا عَتَقَ الْعَبْدُ بِالْإِيجَابَيْنِ، وَإِنْ دَخَلَا عَلَى التَّعَاقُبِ عَتَقَ بِالْأَوَّلِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّانِي حُكْمٌ كَذَا هَذَا.
وَلَوْ قَالَ: إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ فَكَلَّمَ فُلَانًا- وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ التَّصَدُّقَ بِهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنْ أَعْطَى ذَلِكَ مِنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ أَوْ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ فَعَلَيْهِ لِنَذْرِهِ مِثْلُ مَا أَعْطَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْطَى تَعَيَّنَ لِلْإِخْرَاجِ بِجِهَةِ النَّذْرِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْإِخْرَاجِ بِجِهَةِ الزَّكَاةِ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ بِحَقٍّ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لَهُ فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ، كَمَا لَوْ أَنْفَقَهُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مِثَالَ الْوَاجِبِ تَعَيَّنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَنْ النَّذْرَيْنِ فَجَازَ عَنْهُمَا.
وَلَوْ قَالَ: إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثُمَّ صَامَ يَوْمَ الْخَمِيسِ عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ، أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ تَطَوُّعًا فَقَدِمَ فُلَانٌ يَوْمئِذٍ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ- فَعَلَيْهِ يَوْمٌ مَكَانَهُ لِقُدُومِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَنْ جِهَةِ النَّذْرِ، لِوُجُودِ شَرْطِ وُجُوبِهِ وَهُوَ قُدُومُ فُلَانٍ فِيهِ؛ فَإِذَا صَامَ عَنْ غَيْرِهِ فَقَدْ مَنَعَ وُقُوعَهُ عَنْ النَّذْرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدِمَ بَعْدَمَا أَكَلَ، فَيَلْزَمُهُ صَوْمُ يَوْمٍ آخِرَ مَكَانَهُ لِقُدُومِ فُلَانٍ، وَلَوْ كَانَ أَرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ الْيَمِينَ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ؛ لِوُجُودِ شَرْطِ الْبِرِّ وَهُوَ صَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي حَلَفَ عَلَى صَوْمِهِ، وَجِهَاتُ الصَّوْمِ لَمْ تَتَنَاوَلْهَا الْيَمِينُ، وَلَوْ كَانَ قَدِمَ فُلَانٌ بَعْدَ الظُّهْرِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ بَعْدَ الظُّهْرِ لَمْ يَجِبْ الصَّوْمُ عَنْ النَّذْر، كَمَا لَوْ أَنْشَأَ النَّذْرَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ فَلَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ قَبْلَ الزَّوَالِ فِي يَوْمٍ قَدْ أَكَلَ فِيهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ؛ لِأَنَّ الْقُدُومَ حَصَلَ فِي زَمَانٍ يَصِحُّ ابْتِدَاءُ النَّذْرِ فِيهِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الصَّوْمُ لِوُجُودِ الْمُنَافِي لَهُ وَهُوَ الْأَكْلُ، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النَّذْرِ كَمَا لَوْ أَوْجَبَ ثُمَّ أَكَلَ.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الشَّهْرَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ، فَقَدِمَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَهُ فِي رَمَضَانَ- أَجْزَأَ عَنْ رَمَضَانَ، وَلَا يَلْزَمُهُ صَوْمٌ آخَرُ بِالنَّذْرِ؛ لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ يَتَعَيَّنُ لِصَوْمِهِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَذَا النَّذْرِ حُكْمٌ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ لِتَحَقُّقِ الْبِرِّ وَهُوَ الصَّوْمُ، وَالْيَمِينُ انْعَقَدَتْ عَلَى الصَّوْمِ دُونَ غَيْره وَقَدْ صَامَ.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ شُكْرًا لِلَّهِ تَطَوَّعَا لِقُدُومِهِ، وَنَوَى بِهِ الْيَمِينَ فَصَامَهُ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، ثُمَّ قَدِمَ فُلَانٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ- فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَالْكَفَّارَةُ:
(أَمَّا) الْقَضَاءُ فَلِأَنَّهُ نَذْر أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِلْقُدُومِ وَذَلِكَ الْيَوْمُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لِصَوْمِ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا صَامَ عَنْ جِهَةٍ يَتَعَيَّنُ الْوَقْتُ لَهَا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ.
(وَأَمَّا) الْكَفَّارَةُ؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى مُطْلَقِ الصَّوْمِ، بَلْ عَلَى أَنْ يَصُومَ عَنْ الْقُدُومِ، فَإِذَا صَامَ عَنْ غَيْرِهِ لَمْ يُوجَدْ الْبِرُّ فَيَحْنَثُ، وَلَوْ كَانَ فِي رَمَضَانَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
(أَمَّا) عَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ فَلِأَنَّ زَمَانَ رَمَضَانَ يَتَعَيَّنُ لِصَوْمِ رَمَضَانَ، فَلَا يَصِحُّ إيجَابُ الصَّوْمِ فِيهِ لِغَيْرِهِ.
(وَأَمَّا) وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِيهِ؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَصُمْ لِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُوجَدْ الْبِرُّ وَإِنْ صَامَهُ يَنْوِي الشُّكْرَ عَلَى قُدُومِ فُلَانٍ وَلَا يَنْوِي رَمَضَانَ بَرَّ فِي يَمِينِهِ وَأَجْزَأَهُ عَنْ رَمَضَانَ.
(أَمَّا) الْجَوَازُ عَنْ رَمَضَانَ؛ فَلِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ، لِكَوْنِ الزَّمَانِ مُتَعَيِّنًا لَهُ فَوَقَعَ عَنْهُ.
(وَأَمَّا) بِرُّهُ فِي يَمِينِهِ فَلِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى الصَّوْمِ بِجِهَةٍ، وَقَدْ قَصْد تِلْكَ الْجِهَةَ إلَّا أَنَّهُ وَقَعَ عَنْ غَيْرِهِ حُكْمًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ شَهْرًا فَإِنَّهُ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، حَتَّى يَسْتَكْمِلَ مِنْهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَإِنَّهُ تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، إذْ الْيَوْمُ الْوَاحِدُ لَا يُوجَدُ شَهْرًا، لِأَنَّهُ إذَا مَضَى لَا يَعُودُ ثَانِيًا، فَيُحْمَلُ عَلَى الْتِزَامِ صَوْمِ الْيَوْمِ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَوْ الْخَمِيسِ كُلَّمَا تَجَدَّدَ إلَى أَنْ يَسْتَكْمِلَ شَهْرًا ثَلَاثِينَ يَوْمًا، حَمْلًا لِلْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ يَوْمًا نُظِرَ إلَى ذَلِكَ الشَّهْرِ أَنَّهُ رَجَبٌ أَوْ شَعْبَانُ أَوْ غَيْرُهُ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَجَبًا أَوْ شَعْبَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ، إذْ الشَّهْرُ لَا يُوجَدُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَدْ قَصَدَ تَصْحِيحَ نَذْرِهِ، فَيُحْمَلُ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ وَهُوَ حَمْلُ الْيَوْمِ عَلَى الْوَقْتِ.
وَقَدْ يُذْكَرُ الْيَوْمُ وَيُرَادُ بِهِ مُطَلَّقُ الْوَقْتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمئِذٍ دُبُرَهُ}، وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ: يَوْمًا لَنَا وَيَوْمًا عَلَيْنَا عَلَى إرَادَةِ مُطْلَقِ الْوَقْتِ.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ غَدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي قَالَ فِيهِ هَذَا الْقَوْلَ؛ إنْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَا يَنْقُضُ صَوْمَهُ، وَيَبْطُلُ قَوْلُهُ غَدًا؛ لِأَنَّهُ رَكَّبَ اسْمًا عَلَى اسْمٍ لَا بِحَرْفِ النَّسَقِ، فَبَطَلَ التَّرْكِيبُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ إيجَابَ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ غَدًا، وَهَذَا الْيَوْمُ لَا يُوجَدُ فِي غَدٍ، فَلَا يَكُونُ الْغَدُ ظَرْفًا لَهُ، بَطَلَ قَوْلُهُ غَدًا وَبَقِيَ قَوْلُهُ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ، فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَإِنْ كَانَ قَابِلًا لِلْإِيجَابِ صَحَّ، وَإِلَّا بَطَل بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ قَدْ يُعْتَدُّ بِهِ عَنْ مُطْلَقِ الْوَقْتِ.
(وَأَمَّا) الْغَدُ فَلَا يَصْلُحُ عِبَارَةً عَنْ مُطْلَقِ الْوَقْتِ، وَلَا يُعَبَّر بِهِ إلَّا عَنْ عَيْنِ الْغَدِ وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا الْيَوْمَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ غَدًا وَقَوْلُهُ: الْيَوْمَ حَشْوٌ مِنْ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمَ الْغَدِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَلَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّهُ رَكَّبَهُ عَلَى الْغَدِ لَا بِحَرْفِ النَّسَقِ فَبَطَلَ؛ لِأَنَّ صَوْمَ غَدِّ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ فِي الْيَوْمِ، فَلُغِيَ قَوْلُهُ: الْيَوْمَ، وَبَقِيَ قَوْلُهُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَمْسِ غَدًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَمْسِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَامَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ ثَانِيًا فَبَطَلَ الِالْتِزَامُ فِيهِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِقَوْلِهِ: غَدًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ صَوْمَ غَدٍ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْغَدَ ظَرْفًا لِلْأَمْسِ؛ وَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا لَهُ، فَلَغِيَتْ تَسْمِيَةُ الْغَدِ أَيْضًا، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا النَّوْعِ أَنَّ اللَّفْظَ الثَّانِيَ يَبْطُلُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا؛ لِمَا ذَكَرنَا؛ وَإِذَا بَطَلَ هَذَا يُنْظَرُ إلَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ فَإِنْ صَلَحَ صَحَّ النَّذْرُ بِهِ وَإِلَّا بَطَلَ.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ كَذَا كَذَا يَوْمًا، وَلَا نِيَّةَ لَهُ- فَعَلَيْهِ صَوْمُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدَيْنِ مُفْرَدَيْنِ مُجْمَلَيْنِ لَا بِحَرْفِ النَّسَقِ، فَانْصَرَفَ إلَى أَقَلِّ عَدَدَيْنِ مُفْرَدَيْنِ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا لَا بِحَرْفِ النَّسَقِ وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَالزِّيَادَةُ مَشْكُوكٌ فِيهَا، وَإِنْ نَوَى شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى يَوْمًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ حَمْلَ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى التَّكْرَارِ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ؛ يُقَالُ: صَوْمُ يَوْمٍ يَوْمٍ وَيُرَادُ بِهِ تَكْرَارُ يَوْمٍ، وَإِذَا جَازَ هَذَا فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَعَمِلَتْ نِيَّتُهُ.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ كَذَا وَكَذَا يَوْمًا فَعَلَيْهِ صَوْمُ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدَيْنِ مُفْرَدَيْنِ عَلَى الْإِكْمَالِ بِحَرْفِ النَّسَقِ، فَحُمِلَ عَلَى أَقَلِّ ذَلِكَ، وَأَقَلُّهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ، يُقَالُ: صَوْمُ يَوْمٍ يَوْمٍ وَيُرَادُ بِهِ تَكْرَارُ يَوْمٍ وَاحِدٍ.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوِمًا؛ لِأَنَّ الْبِضْعَ عِنْدَ الْعَرَبِ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إلَى تَمَامِ الْعَقْدِ وَهُوَ عَشْرَةٌ وَعِشْرُونَ وَثَلَاثُونَ وَأَرْبَعُونَ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ صُرِفَ إلَى أَقَلِّهِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ؛ إذْ الْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ سِنِينَ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ مُسْتَحَقَّةُ هَذَا الِاسْمِ بِيَقِينٍ، وَلَوْ قَالَ: السِّنِينَ فَهُوَ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا عَلَى الْأَبَدِ.
وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ صَوْمُ الشُّهُورِ فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، وَعِنْدَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا.
وَلَوْ قَالَ صَوْمُ شُهُورٍ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا هَذَا فِي الْأَيَّامِ، وَأَيَّامًا مُنَكَّرًا وَمُعَرَّفًا، وَعِنْدَهُمَا الْمُعَرَّفُ يَقَعُ عَلَى الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ.
وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ جُمَعِ هَذَا الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ صَوْمُ كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ فِي ظَاهِرِ الْعَادَةِ عَيْنُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ صَوْمُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ أَيَّامَ الْجُمُعَةِ سَبْعَةٌ فِي تَعَارُفِ النَّاسِ.
وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ جُمُعَةٍ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى إنْ نَوَى عَيْنَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، أَوْ نَوَى أَيَّامَهَا؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهِ يَحْتَمِلُ كِلَيْهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى أَيَّامِهَا؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ فِي أَغْلِبْ الْعَادَاتِ أَيَّامُهَا وَاَللَّهُ- عَزَّ شَأْنُهُ- أَعْلَمُ.
وَلَوْ نَذَرَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ: عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ وَكَذَا إذَا قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ- عَزَّ شَأْنُهُ-، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ إذَا دَخَلْتُ الدَّارَ، فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ: عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ، ثُمَّ دَخَلَ الثَّانِي الدَّارَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْعَتَاقُ وَالطَّلَاقُ، ثُمَّ: قَالَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ طَلَاقُ امْرَأَتِي فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: الطَّلَاقُ عَلَيَّ وَاجِبٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ.
قَالَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَانَ أَصْحَابُنَا بِالْعِرَاقِ يَقُولُونَ فِيمَنْ قَالَ: الطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِعُرْفِ النَّاسِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ الطَّلَاقَ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ يَقُولُ: إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِكُلِّ حَالٍ.
وَحَكَى الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ بْنِ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-: إذَا قَالَ الطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ أَوْ عَلَيَّ وَاجِبٌ- لَمْ يَقَعْ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَقَعُ فِي قَوْلِهِ لَازِمٌ وَلَا يَقَعُ فِي قَوْلِهِ وَاجِبٌ، وَحَكَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ قَالَ: أَلْزَمْتُ نَفْسِي طَلَاقَ امْرَأَتِي هَذِهِ أَوْ أَلْزَمْتُ نَفْسِي عِتْقَ عَبْدِي هَذَا قَالَ: إنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ فَهُوَ وَاقِعٌ، وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْهُ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَلْزَمْتُ نَفْسِي طَلَاقَ امْرَأَتِي هَذِهِ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ أَوْ عِتْقَ عَبْدِي هَذَا؛ فَدَخَلَ الدَّارَ- وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ إنْ نَوَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- أَنَّ الْوُقُوعَ لِلْعَادَةِ، وَالْعَادَةُ فِي اللُّزُومِ؛ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَهُ عَلَى إرَادَةِ الْإِيقَاعِ، وَلَا عَادَةَ فِي الْإِيجَابِ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الظَّاهِرَ الْإِلْزَامُ وَالْإِيجَابُ لِلنَّذْرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْتِزَامُ حُكْمِ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ فَيَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ كَسَائِرِ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ وَالْإِلْزَامَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَبَطَلَ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا قَالَ رَجُلٌ: امْرَأَةُ زَيْدٍ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَرَقِيقُهُ أَحْرَارٌ، وَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ- جَلَّ شَأْنُهُ- إنْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ؛ فَقَالَ زَيْدٌ: نَعَمْ- كَانَ كَأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ بِذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ نَعَمْ جَوَابٌ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، فَيَتَضَمَّنُ إضْمَارَ مَا خَرَجَ جَوَابًا لَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ- عَزَّ شَأْنُهُ-: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ}، تَقْدِيرُهُ: نَعَمْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، وَكَالشُّهُودِ إذَا قَرَءُوا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ كِتَابَ الْوَثِيقَةِ، فَقَالُوا: نَشْهَدُ عَلَيْك بِمَا فِيهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إنَّ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ نَعَمْ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَالَ نَعَمْ وَلَكِنَّهُ قَالَ أَجَزْتُ ذَلِكَ، فَهَذَا لَمْ يَحْلِفْ عَلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَجَزْتُ لَيْسَ بِإِيجَابٍ وَالْتِزَامٍ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَإِنْ قَالَ: قَدْ أَجَزْتُ ذَلِكَ عَلَيَّ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ، أَوْ قَالَ: قَدْ أَلْزَمْتُ نَفْسِي ذَلِكَ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ، كَانَ لَازِمًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا قَالَهُ، فَلَزِمَهُ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: امْرَأَةُ زَيْدٍ طَالِقٌ، فَقَالَ زَيْدٌ: قَدْ أَجَزْت لَزِمَهُ الطَّلَاقُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَدْ رَضِيت مَا قَالَ أَوْ أَلْزَمْتُهُ نَفْسِي؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِيَمِينٍ، بَلْ هُوَ إيقَاعٌ، فَيَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ، فَأَمَّا الْيَمِينُ فَيَحْتَاجُ إلَى الِالْتِزَامِ، لِيَجُوزَ عَلَى الْحَالِفِ وَيَنْفُذَ عَلَيْهِ، فلابد مِنْ لَفْظِ الِالْتِزَامِ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: إنْ بِعْتُ هَذَا الْمَمْلُوكَ مِنْ زَيْدٍ فَهُوَ حُرٌّ؛ فَقَالَ زَيْدٌ قَدْ أَجَزْتُ ذَلِكَ أَوْ رَضِيت ذَلِكَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ- لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِشَرْطٍ، فَوُجِدَ الشَّرْطُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَلَمْ يَحْنَثْ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِجَازَةِ حُكْمٌ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يُوَقِّتْ الْيَمِينَ، وَإِنَّمَا حَلَفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ قَالَ: إنْ اشْتَرَى زَيْدٌ هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ، فَقَالَ: نَعَمْ ثُمَّ اشْتَرَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَعْقِدْ الْيَمِينَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إلَى مُلْكِ الْمُشْتَرِي، فَصَارَ عَاقِدًا لِيَمِينٍ مَوْقُوفَةٍ، وَقَدْ أَجَازَهَا مَنْ وُقِفَتْ عَلَيْهِ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا.
وَقَالَ ابْن سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ آخَرُ: عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ- فَإِنَّ هَذَا لَا يَلْزَمُ الثَّانِيَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَيَّ مِثْلُ هَذَا الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ، إيجَابُ الطَّلَاقِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ.
وَلَوْ حَلَفَ رَجُلٌ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَقَالَ آخَر: عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ إنْ دَخَلْتُهَا- فَإِنْ دَخَلَهَا الثَّانِي، لَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقُ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الطَّلَاقَ إنْ دَخَلَ الدَّارَ وَالطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ وَالْإِلْزَامَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةِ، فَإِنْ أَرَادَ بِهَذَا الْإِيجَابِ الْيَمِينَ فَلَيْسَتْ بِطَلَاقٍ حَتَّى تَطْلُقَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ إذَا أُرِيد بِهِ الْيَمِينُ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: لَأُطَلِّقَنَّهَا وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا كَذَا هَذَا.
وَلَوْ قَالَ: عَبْدِي هَذَا حُرٌّ إنْ دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ، فَقَالَ آخَرُ: عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ إنْ دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ، فَدَخَلَ الثَّانِي- لَمْ يَعْتِقْ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ عِتْقًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ يَعْتِقُهُ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِعَبِيدِهِ الْمَوْجُودِينَ لَا مَحَالَةَ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِمْ لَا يَلْزَمُهُ عِتْقٌ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ الْحَالِفُ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَسَمَةٌ إنْ دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ، فَقَالَ آخَرُ: عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ إنْ دَخَلْتُ- فَهَذَا لَازِمُ لِلْأَوَّلِ وَلَازِمٌ لِلثَّانِي؛ أَيُّهُمَا دَخَلَ لَزِمَهُ نَسَمَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَوْجَبَ عِتْقًا فِي ذِمَّتِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ بِالنَّذْرِ، وَإِذَا أَوْجَبَ آخَر مِثْلَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ مَا أَوْجَبَ الْعِتْقَ بَلْ عَلَّقَ، فَلَا يَكُونُ عَلَى الثَّانِي إيجَابٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلٍ.
وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَا لِي هَدْيٌ وَقَالَ: آخَرُ وَعَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ- فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ جَمِيعَ مَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مَالِ الْأَوَّلِ أَوْ أَكْثَرَ؛ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ مِثْلَ قَدْرِهِ فَيَلْزَمُهُ مِثْلُ ذَلِكَ، إنْ كَانَ مَالُ الثَّانِي أَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ مَالُ الثَّانِي أَقَلَّ يَلْزَمُهُ فِي ذِمَّتِهِ تَمَامُ مَالِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِيجَابِ يُضَافُ إلَى هَدْيِ جَمِيعِ مَالِهِ كَمَا أَوْجَبَ الْأَوَّلُ، فَإِذَا أَرَادَ الْقَدْرَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قَالَ رَجُلٌ: كُلُّ مَالٍ أَمْلِكُ إلَى سَنَةٍ فَهُوَ هَدْيٌ، فَقَالَ آخَرُ: عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ- لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَمْ يُضِفْ الْهَدْيَ إلَى الْمِلْكِ، فَلَا تَثْبُتُ الْإِضَافَةُ بِالْإِضْمَارِ.
وَاَللَّهُ- عَزَّ شَأْنُهُ- أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَنْذُورُ بِهِ إذَا كَانَ مَالًا مَمْلُوكَ النَّاذِرِ وَقْتَ النَّذْرِ، أَوْ كَانَ النَّذْرُ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ، أَوْ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ، حَتَّى لَوْ نَذَرَ بِهَدْيِ مَا لَا يَمْلِكُهُ، أَوْ بِصَدَقَةِ مَا لَا يَمْلِكُهُ لِلْحَالِ- لَا يَصِحُّ، لِقَوْلِهِ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ» إلَّا إذَا أَضَافَ إلَى الْمِلْكِ، أَوْ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ بِأَنْ قَالَ: كُلُّ مَالٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُ فَهُوَ هَدْيٌ، أَوْ قَالَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، أَوْ قَالَ: كُلَّمَا اشْتَرَيْته أَوْ أَرِثُهُ فَيَصِحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعَيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالصَّحِيحُ: قَوْلُنَا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.
دَلَّتْ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ عَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ الْمُضَافِ؛ لِأَنَّ النَّاذِرَ بِنَذْرِهِ عَاهَدَ اللَّهَ تَعَالَى الْوَفَاءَ بِنَذْرِهِ، وَقَدْ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِمَا عَهِدَ، وَالْمُؤَاخَذَةُ عَلَى تَرْك الْوَفَاءِ بِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي النَّذْرِ الصَّحِيحِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ مَفْرُوضًا وَلَا وَاجِبًا، فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِشَيْءٍ مِنْ الْفَرَائِضِ سَوَاءٌ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ، أَوْ فَرْضَ كِفَايَةٍ كَالْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا كَالْوِتْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُمْرَةِ وَالْأُضْحِيَّةِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ كَتَجْهِيزِ الْمَوْتَى وَغُسْلِهِمْ وَرَدِّ السَّلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْوَاجِبِ لَا يُتَصَوَّرُ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ فَخُلُوُّهُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنْ دَخَلَهُ أَبْطَلَهُ.